فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان شديد الشبه للعجول، قيل: {عجلًا} وقدم قوله: {جسدًا} لنعرف أن عجليته صورة لا معنى- على قوله: {له خوار} لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل {فقالوا} أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه: {هذا} مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو مثل في الغباوة {إلهكم وإله موسى فنسى} أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي- بعدوله عن هذا المكان- موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره، أو نسي أن يذكره لكم.
ولما كان هذا سببًا للإنكار على من قال هذا، قال: {أفلا يرون} أي أقالوا ذلك؟ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية {أن} أي أنه {لا يرجع إليهم قولًا} والإله لا يكون أبكم {ولا يملك لهم ضرًا} فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفًا من ضره {ولا نفعًا} فيقولوا ذلك رجاء له.
ولما كان الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع، قال عاطفًا على قوله: {قال يا قوم ألم يعدكم} أو على قوله: {قالوا ما أخلفنا}: {ولقد قال لهم هارون} أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده.
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان، قال: {من قبل} أي من قبل رجوع موسى، مستعطفًا لهم: {يا قوم} ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم ونظرهم فقال: {إنما فتنتم} أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه {به} أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة.
وأكد لأجل إنكارهم فقال: {وإن ربكم} أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان {الرحمن} وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة، فليس على البر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده.
ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وارجوا إسباغها بطاعته {فاتبعوني} بغاية جهدكم في الرجوع إليه {وأطيعوا أمري} في دوام الشرف بالخضوع لديه، ودوام الإقبال عليه، بدفع عنكم ضيره، ويفض عليكم خيره.
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه، قيل: {قالوا} بفظاظة وجمود: {لن نبرح عليه} أي على هذا العجل {عاكفين} أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك {حتى يرجع إلينا موسى} فدافعهم، فهمّوا به، وكان معظمهم قد ضل، فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئًا، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل، إنما قال له {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف: 142] فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قالوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}.
وفيمن قائل هذا الجواب من هو وجهان: الأول: أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا: إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50]، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضًا على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سببًا لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة.
الوجه الثاني: أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا.
فإن قيل: كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم، قلنا: هذا غير ممتنع في حق البله من الناس، واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل.
وأما الضم فهو السلطان، ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا: {ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَارًا مّن زِينَةِ القوم} قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر: حملنا مشددة، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه: أحدها: أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك.
وثانيها: جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله.
وثالثها: أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم، أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزرًا لأنه ثقل ثم فيه احتمالات.
أحدها: أنه لكثرتها كانت أثقالًا.
وثانيها: أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالًا.
وثالثها: المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثامًا، روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال: إنها نجسة فتطهروا منها، وقال السامري: إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول.
وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب.
ورابعها: أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها أوزارًا كما يقال مثله في آلات المعاصي.
أما قوله: {فَقَذَفْنَاهَا} فذكروا فيه وجوهًا في أنهم أين قذفوها؟ الوجه الأول: قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظارًا لعود موسى عليه السلام.
والوجه الثاني: قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك.
الوجه الثالث: في موضع جمع فيه النار ثم قالوا: فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا، أما قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حيًا أم لا؟ فالقول الأول: لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل.
والقول الثاني: أنه صار حيًا وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] ولو لم يصر حيًا لما بقي لهذا الكلام فائدة.
وثانيها: أنه تعالى سماه عجلًا والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسدًا وهو إنما يتناول الحي.
وثالثها: أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع، وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال: اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزًا للنبي، أما قوله: {فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى} ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وجوابه: لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم، وإن كان ذلك أيضًا في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية، ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة، وأما قوله: فنسي ففيه وجوه.
الأول: أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لايحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ ألا يَرجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعًا} أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلهًا ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية.
الوجه الثاني: أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين.
الوجه الثالث: فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لابد وأن يكون موصوفًا بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام:
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي هاهنا بحثان.
البحث الأول: قال الزجاج: الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} [المائدة: 71] بمعنى أنه لا تكون وقرئ بالنصب أيضًا على أن أن هذه هي الناصبة للأفعال.
البحث الثاني: هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148] وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهًا لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطًا بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط.
الثالث: قال بعض اليهود لعلي عليه السلام: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم؟ فقال: إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة؟
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)}.
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأمورًا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأمورًا من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله: {اخلفنى في قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفًا لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز، أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي.
وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم».
وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وقال أبو علي الحسن الغوري: كنت في بعض المواضع فرأيت زورقًا فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح: إيش هذا فقال: أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد، فقلت له: أعطني ذلك المدرى، فقال لغلامه: اعطه حتى نبصر إيش يعمل، فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت؟ قلت المحتسب، قال من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الخلافة قال: لم كسرت هذه الدنان؟ قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك قال: فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته، فقال: اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة، فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطيًا.
وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقًا على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعًا يتهافتون على النار فيمنعهم منها، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام: «يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي» وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر: ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعًا على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدرك المرأة» فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك: «أترون هذه رحيمة بولدها؟» قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال «والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها» ويروى: أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» فسمع الشاب ذلك فولى، فقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا اعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر، فهبط جبريل عليه السلام وقال: «يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق» إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب.
ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال: {ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} الآية وهاهنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي: {أنت مني بمنزلة هرون من موسى} ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول: {فاتبعونى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب، واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولًا بقوله: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيًا بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} ثم دعاها ثالثًا إلى معرفة النبوة بقوله: {فاتبعونى} ثم دعاهم إلى الشرائع رابعًا بقوله: {وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لابد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه، وإنما قال: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون. اهـ.

.قال الماوردي:

{قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بطاقتنا، قاله قتادة والسدي.
الثاني: لم نملك أنفسنا عند ذلك للبلية التي وقعت بنا، قاله ابن زيد.
الثالث: لم يملك المؤمنون منع السفهاء من ذلك والموعد الذي أخلفوه أن وعدهم أربعين فعدّوا الأربعين عشرين يومًا ليلة وظنوا أنهم قد استكملوا الميعاد، وأسعدهم السامري أنهم قد استكملوه.